برلمان ٢٠٢٢ يجدد شباب نظام المحاصصة وحزب المصارف.
يعرف الكثير من اللبنانيين ان المجلس النيابي لم يفلح يوما في التعبير عن مصالح الشعب اللبناني بل هو كان دائما مجرد أداة في يد سلطة الطوائف. السنوات الاخيرة من عمر المجلس فضحت فشله في لعب أدنى دور في اخراج البلاد من ازماتها. بل هو أجهض كل المحاولات لإقرار قوانين للخروج من الازمة وخاصة مشاريع قوانين التعافي والكابيتال كونترول والفساد واسترجاع الاموال المنهوبة والمهربة، خدمة لمصالح الحلف السياسي-المصرفي-التجاري المهيمن، واختصارا “حزب المصارف”. طبعا انها حال كل مؤسسات الدولة من حكومة وادارات وقوى امنية وقضاء أيضا. كل هذه المؤسسات تقوم في النهاية بدور يوازي مجلس العشائر في الدول ما قبل الحديثة، وهو حال سيبقى ما بقي نظام الطوائف. وما هذه البنى الاّ ديكور تضفي عليها الانتخابات مظاهر الديمقراطية.
هل يختلف المجلس الجديد عن المجالس السابقة أم لا؟ وما هي طبيعة الخلافات بين الكتل الحالية والسابقة؟
ينقسم نواب اليوم كنواب الامس حول عدد كبير من القضايا: طائفة، مذهب، مقاومة، أميركا، إسرائيل، إيران، سوريا، سعودية، ثقافة (تاريخ، ملبس). وتتوحد غالبية النواب حول: الحفاظ على النظام الطائفي والنظام الاقتصادي القائم على المحاصصة وعلى الاستيلاء على مقدرات الدولة والعمل خارج القوانين. وتتعاون احزاب الطوائف لحماية هذا النظام وتستعمل وتعطل هذا القانون او ذاك وفق مصالحها (هناك 56 قانونا معطلا) وهي اجمعت، بعد نهاية الحرب الاهلية الكبرى (1975-1991)، على مخالفة الدستور والحفاظ على النظام الطائفي كمصدر للسلطات عبر ما تخالف حزب المصارف، المذكور اعلاه، الذي نجح في السيطرة على السلطة والاقتصاد وتأسيس ثروات هائلة الحجم غير معروفة سابقا في لبنان.
لكن ما هي الانقسامات الثابتة والحقيقية في المجلس؟
1-الصراع على السلطة بين الطوائف:
في الدول الديمقراطية يعتمد الصراع على السلطة الاختلاف بين برامج الاحزاب لتحسين اوضاع البلاد والفئات الاجتماعية والاقتصادية التي تمثلها الاحزاب (رجال اعمال، طبقة وسطى، مزارعين، اجراء الخ). اما في النظام الطائفي فالصراع على السلطة هو في الواقع “خلاف متفق عليه” ناتج عن طبيعة هذا النظام الذي يعتمد دائما نفس البرنامج وهو الصراع حول الحصص، وأدواته العصبية والكراهية والتكفير والتخوين المتبادل، ودائما لمصلحة الزعيم ومحيطه المباشر (عائلة، رجال اعمال طفيليين، رجال دين الخ). هذه الصراعات استفحلت بعد انتهاء الحرب الاهلية الكبرى بعد دخول الاسلام السياسي شريكا في الحكم إلى جانب المارونية السياسية. لقد لعبت المؤسسات، من حكومة وادارات ومجلس نيابي وقضاء، دائما دور الساحة لهذه الصراعات (بديلا لدورها الطبيعي في ادارة شؤون الناس). طبعا تمارس كل احزاب الطوائف اللعبة وفق مبدأ رئيسي وهو تعاونها للحفاظ على مصدر هيمنتها، كل على طائفته، أي النظام الطائفي. وقد وصل النظام إلى “أرقى” درجاته عندما اعتمد صيغة حكومات الوحدة الوطنية، وهي رديف للنظام المافيوي، لأنها تلغي مبدأ الديمقراطية الاساسي، أي المعارضة وتداول السلطة.
اما الانقسام حول المقاومة فهو ليس الاّ واحد من أدوات الصراع على الحصص، لأهمية المقاومة الاقليمية والدولية ولتقديم اوراق اعتماد بعض الاطراف الداخلية المعترضة إلى الدول الراعية بدون الالتفات الى حاجات الشعب اللبناني لحماية نفسه من الخطر الاسرائيلي القائم منذ استعمار فلسطين.
لكن كل الكتل والقوى الطائفية والمدنية تعرف تماما ان هذا الانقسام الداخلي حول المقاومة لا قيمة له لأنه مرتبط بصراعات أكبر بكثير من لبنان، والتأثير الداخلي المعارض ضئيل يتلخص دوره “بالحركشة” لا أكثر. وهنا يمكن الاشارة إلى تجربة سعد الحريري الذي وعى هذا الواقع باكرا ونأى بنفسه عن هذه الالعاب الخطرة مما ادى إلى انهيار دوره المفترض.
لذلك يمكنا القول ان هذه الصراعات الداخلية لها وظيفة محددة لا ترتبط بمصالح الناس بل بضرورات عمل نظام المحاصصة وهي مستمرة ولا يمكن ان تزول، او تضعف، الا بزوال النظام الطائفي نفسه. لذا لا معنى للمناشدات الاخلاقية او ادعاءات احزاب الطوائف بمحبتها وتلهفها للوحدة الوطنية.
٢- حول طبيعة الازمة الاقتصادية المالية وحلولها.
الحقيقة ان الخلاف لا يكمن في هذه الازمة بالذات بل هو مرتبط بالتاريخ الوظيفي للبنان (دولة للموارنة) منذ تأسيسه قبل مائة عام وإلى تحوله عام 1992 إلى نظام المحاصصة المتعدد الطوائف الذي كرسه انقلاب الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري على الدستور عندما رفضا الغاء الطائفية السياسية لهدف واحد لخصه ذات يوم الرئيس بري، عام 1995، بالقول “تريد الغاء الطائفية؟ لنصبح مثلهم قبل وبعدين منشوف” ويقصد نفوذ الموارنة السياسي والمالي. وكون القطاع المالي والمصرفي والتجاري هما الاكثر والاسرع ربحا ودخلا، فقد قرر الحريري قيادة القطار، بمعاونة السنيورة، فألغوا النشاط الزراعي والصناعي التقليدي (الذي نشط في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) لما يطلبه من استثمارات مع هامش ربح متواضع، وعمموا الفساد والمحسوبيات وصادروا المؤسسات والوسط التجاري تحت اسم سوليدير المشؤومة. والحقيقة المرّة ان كافة احزاب الطوائف تحمست للنبي الآتي من التجربة النفطية (رفيق الحريري) واعتمدته مرجعها الاقتصادي الوحيد وسلمته مفاتيح البلاد والاقتصاد. ويروي مقربون منه انه تفاجئ كثيرا من انبطاح عموم رجال السياسة المطلق امامه.
من اعترض منهم كانوا بضعة افراد وسياسيين استشرفوا باكرا طبيعة الاقتصاد المتوحش الحاكم. لكن اجماع احزاب الطوائف حسم الامر لمصلحة هيمنة ما سمي لاحقا بحزب المصارف (سياسيين، مصارف واحتكارات). قوة نفوذ هذا الحلف تبدو بلا حدود بعد ان استطاع تدمير الاقتصاد المنتج والاحزاب اللاطائفية والنقابات ومعظم النخب، عبر الاغراءات او الحصار.
الاضاءة على حالة التشوهات التي اصابت المقاومة الاسلامية، كنموذج، تؤكد حجم الاضرار. أذ استطاع حلف المصارف تحويل المقاومة، التي قهرت إسرائيل وحمت لبنان، ولا زالت، إلى مجرد واحدة من أحزاب الطوائف المستكينة للنظام (هيدا لبنان!) وحتى المستعدة للدفاع عنه بلا وجل ضد مصالح وحقوق اللبنانيين الذي ضرب الفقر أكثر من 80% منهم واذلهم وشردهم. ويمكن اعتبار إطلاق جبهة الثنائي الشيعي قمة استسلام المقاومة للنظام مع ما سينتج عن ذلك من انهيارات جديدة في بنية المجتمع اللبناني ومن نتائج كارثية على مستوى المقاومة لا مفر منها. تسعى قيادة حزب الله لإيجاد ألف تفسير وحجة لما جرى لكن عراء الناس وذلهم لا يحتاج لأي تفسير.
نعم حلف المصارف شفط إلى دائرته كل احزاب الطوائف بلا استثناء.
اليوم في برلمان 2022 هناك كتلتان: واحدة لا ترى الاّ استمرار نفس السياسات الماضية، تحت قيادة حزب المصارف وهي عابرة للكتل والانقسامات النظرية أعلاه، وتشمل بالتأكيد أكثر من 110 نائب وتتلخص حلولها في الاستيلاء على ما تبقى من الودائع بالدولار وعلى الذهب واملاك الدولة وشطب الجزء الاكبر من الودائع بكافة الوسائل القانونية وغير القانونية لكيلا تدفع قرشا واحدا من المصارف او الاموال المهربة او المنهوبة. والاخطر الاستيلاء على قوة عمل اللبنانيين عبر الاستمرار في الدفع إلى مزيد من انهيار الليرة أمام الدولار. هذه الكتلة الخارقة والمافيوية تعمل منذ تشرين 2019 على إنضاج حالة اليأس والانهيار الشامل عبر سلسلة مناورات وقرارات أطلقها رياض سلامة، وعبر تعطيل المجلس النيابي بما يتلاءم مع مصالح الحلف المذكور. طبعا هنا لا تنفع كل الادعاءات الاعلامية والخطابات والصراعات التي تهدف فقط إلى اخفاء حجم التواطئي والشراكة بين كل احزاب الطوائف، بما فيها تلك التي تطلق ليل نهار ابواقها ضد رياض سلامة.
على الهامش سؤال مشروع: كم عدد رجال الصف الاول والثاني من السياسيين ورجال الاعمال والمصرفيين تم حجز كل ودائعه؟ لا أحد!
– يبقى اقل من 15 نائبا قد يرون الحل في المحاسبة وتطوير الاقتصاد واسترجاع الأموال المنهوبة وتوحيد سعر الصرف وهيكلة القطاع المصرفي والدفاع عن الودائع. منهم بعض نواب الكتلة المدنية الجنينية. اتخذت هذه المجموعة أسم كتلة التغيير وهذا هدف سام دونه عقبات أولها انهم مجموعة ناشطين افراد من افاق مختلفة لا تمثل اية قوى سياسة او اقتصادية جدية وبالتالي سيكون دورهم محدودا مهما حسنت النوايا. وكان انتخابهم تعبير عن مناخ الاعتراض على هيمنة احزاب الطوائف. يمكن لهذه المجموعة، ذات الخبرة المتواضعة، ان تطمح إلى إطلاق ديناميكية جديدة ما، تفضح حجم الدور القذر الذي لعبه المجلس النيابي خدمة لأسياده. والخوف هو انزلاق البعض منهم إلى احضان الطوائف مباشرةً او مواربة خاصة وان خبرة أسياد الطوائف في شفط المحاولات الاصلاحية إلى دائرته مشهود لها.
اختصارا الانقسام الوحيد الحقيقي يكمن في الصراع على النفوذ والمصالح والثروات ولا يمكن للناس، وللإصلاحيين بشكل خاص، انتظار أية نتائج جدية من برلمان 2022. وبالخلاصة حزب المصارف، العابر للطوائف وللكتل النيابية، هو الحزب المهيمن اليوم وهو الذي يوحد أكثرية نواب الأمة! عاشت الأمة.
مواجهة هذا الحزب تتطلب انشاء حلف مضاد يجمع رواد الاقتصاد المنتج والقوى والنخب المدنية والعلمانية والنقابية في إطار متماسك يبدأ برفع شعار واحد: تطبيق الدستور فورا بكافة اوجهه خاصة بناء الدولة خارج النظام الطائفي والغاء قانون الانتخاب الطائفي وكل المؤسسات المخالفة للدستور.
د. زهير برو
بيروت 21 حزيران 2022
لا تعليق